فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا على النَّاسِ يستوفون (2) وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم يخسرون (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيوم عَظِيمٍ (5) يوم يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي له الحكمة البالغة والقدرة الكاملة (الرحمن) الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان الشاملة (الرحيم) الذي أكرم حزبه بالتوفيق لحسن المعاملة.
ولما ختم الانفطار بانقطاع الأسباب وانحسام الأنساب يوم الحساب، وأبلغ في التهديد بيوم الدين وأنه لا أمر لأحد معه، وذكر الأشقياء والسعداء، وكان أعظم ما يدور بين العباد المقادير، وكانت المعصية بالبخس فيها من أخس المعاصي وأدناها، حذر من الخيانة فيها وذكر ما أعد لأهلها وجمع إليهم كل من اتصف بوصفهم فحلمه وصفه على نوع من المعاصي، كل ذلك تنبيهاً للأشقياء الغافلين على ما هم فيه من السموم الممرضة المهلكة، ونبه على الشفاء لمن أراده فقال: {ويل} أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة {للمطففين} أي الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيئ وهو حب الدنيا الموقع في جمع الأموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه: التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل، من الطف، وهو ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، ومنه ما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت فارساً فسبقت الناس حتى طفت لي الفرس مسجد بني زريق- يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي المسجد، ويقال: طف الرجل الحائط- إذا علاه، أو من القرب، من قولهم: أخذت من متاعي ما خف وطف، أي قرب مني، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته، والطفاف من الإناء وغيره: ما قارب أن يملأه، ولا يتم ملأه، وفي الحديث: «كلكم بنو آدم طف الصاع»، أو من الطفف وهو التقتير، يقال: طفف عليه تطفيفا- إذا قتر عليه، أو من الطفيف وهو من الأشياء الخسيس الدون والقليل، فكأن التضعيف للإزالة على المعنى الأول كما مضى، وللمقاربة الكثيرة على المعنى الثاني أي أنه يقار ملء المكيال مقاربة كبيرة مكراً وخداعاً حتى يظن صاحب الحق أنه وفى ولا يوفي، يقال: أطف فلان لفلان- إذا أراد ختله، وإذا نهى عن هذا فقد نهى عما نقص أكثر بمفهوم الموافقة، وعلى المعنى الثالث بمعنى التقتير والمشاححة في الكيل، وعلى المعنى الرابع بمعنى التنقيص والتقليل فيه، وكأنه اختير هذا اللفظ لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء اليسير جدًّا، هذا أصله في اللغة وقد فسره الله سبحانه وتعالى فقال: {الذين إذا اكتالوا} أي عالجوا الكيل أو الوزن فاتزنوا- بما دل عليه ما يأتي، وعبر بأداة الاستعلاء ليكون المعنى: مستعلين أو متحاملين {على الناس} أي خاصة بمشاهدتهم كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً ولا يراعون أحدًّا، بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً، وهذا الفعل يتعدى بمن وعلى، يقال: اكتال من الرجل وعليه، ويجوز أن يكون اختيار التعبير بعلى هنا مع ما تقدم للإشارة إلى أنهم إذا كان لهم نوع علو بأن كان المكتال منه ضعيفاً خانوه فيكون أمرهم دائراً على الرذالة وسفول الهمة التي لا أسفل منها {يستوفون} أي يوجدون لأنفسهم الوفاء وهو تمام الكيل بغاية الرغبة والمبالغة في الملء، فكأنه ذكر {اكتالوا} ولم يذكر (اتزنوا) لأنه لا يتأتى في الوزن من المعالجة ما يتأتى في الكيل، ولأنهم يتمكنون في الاكتيال من المبالغة في استيفاء المؤدي إلى الزيادة ما لا يتمكنون من مثله في الاتزان، وهذا بخلاف الإخسار فإن التمكن بسببه حاصل في الموضعين فلذلك ذكرهما فيه.
ولما أفهم تقديم الجار الاختصاص فافهم أنهم إذا فعلوا من أنفسهم لا يكون كذلك، صرح به فقال: {وإذا كالوهم} أي كالوا الناس أي حقهم أي ما لهم من الحق {أو وزنوهم} أي وزنوا ما عليهم له من الحق، يقال: اكتال من الرجل وعليه وكال له الطعام وكاله الطعام، ووزنت الرجل الشيء ووزنت له الشيء، ولعله سبحانه اختار {على} في الأول والمعدى إلى اثنين في الثاني لأنه أدل على حضور صاحب الحق، فهو في غيبته أولى، فهو أدل على المرون على الوقاحة، فهما كلمتان لا أربع لأنه ليس بعد الواو ألف جمع، قال البغوي: وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدئ هم، قال أبو عبيدة: والاختيار الأولى، قال البغوي: يعني أن كل واحدة كلمة لأنهم كتبوهما بغير ألف باتفاق المصاحف، وقال الزمخشري: ولا يصح أن يكون ضميراً للمطففين لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إبطاله بخط المصحف وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابته فيه ركيك لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط- انتهى.
ولا شك أن في خط المصحف تقوية لهذا الوجه المعنوي وتأكيداً {يخسرون} أي يوجدون الخسارة بالنقص فيما يكيلون لغيرهم، والحاصل أنهم يأخذون وافياً أو زائداً ويعطون ناقصاً.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه وتعالى في سورة الانفطار {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} [الانفطار: 10] الآية وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين} [الأنبياء: 47] أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم، وذلك التطفيف في المكيال والميزان والانحراف عن إقامة القسط في ذلك، فقال تعالى: {ويل للمطففين} [المطففين: 1] ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 4- 5] ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى ختامها- انتهى.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنهم أدمنوا على هذه الرذائل حتى صارت لهم خلقاً مرنوا عليه وأنسوا به وسكنوا إليه، وكان ذلك لا يكون إلا ممن أمن العقاب وأنكر الحساب، أنتج ذلك الإنكار عليهم على أبلغ الوجوه لإفهامه أن حالهم أهل لأن يتعجب منه ويستفهم عنه وأن المستفهم عن حصوله عندهم الظن، وأما اليقين فلا يتخيل فيهم لبعد أحوالهم الجافية وأفهامه الجامدة عنه فقال تعالى: {ألا يظن أولئك} أي الأخساء البعداء الأرجاس الأراذل يتجدد لهم وقتاً من الأوقات ظن أن لم يتيقنوا بما مضى من البراهين التي أفادت أعلى رتب اليقين، فإنهم لو ظنوا ذلك ظناً نهاهم إن كان لهم نظر لأنفسهم عن أمثال هذه القبائح، ومن لم تفده تلك الدلائل القاطعة ظناً يحتاط به لنفسه فلا حس له أصلاً {أنهم} وعبر باسم المفعول فقال: {مبعوثون} إشارة إلى القهر على أهون وجه بالبعث الذي قد ألفوا مثله من القهر باليقظة بعد القهر بالنوم {ليوم} أي لأجله وفيه، وزاد التهويل بقوله: {عظيم} أي لعظمة ما يكون فيه من الجمع والحساب الذي يكون عنه الثواب والعقاب مما لا يعلمه على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى.
ولما عظم ذلك اليوم تحذيراً منه، وزاده تعظيماً بأن أتبعه على سبيل القطع قوله ناصباً بتقدير (أعني) إعلاماً بأن الجحد فيه بأعين جميع الخلائق فهو فضيحة لا يشبهها فضيحة: {يوم يقوم} أي على الأرجل {الناس} أي كل من فيه قابلية الحركة، وذلك يوم القيامة خمسين ألف سنة لا ينظر إليهم سبحانه- رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو رفعه ورجاله ثقات {لرب العالمين} أي لأجل حكم موجد الخلائق ومربيهم كلهم فلا ينسى أحدًّا من رزقه ولا يهمله من حكمه ولا يرضى بظلم أحد ممن يربيه فهو يفيض لكل من كل بحكم التربية، كل ذلك من استفهام الإنكار وكله الظن، ووصف اليوم بما وصف وغير ذلك للإبلاغ في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه، وروى الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه رفعه: «ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» ومن طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً نحوه. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{بل ران} حفص يقف على {بل} وقفة يسيرة ومع ذلك يصل.
وقرأ الحلواني عن قالون مظهراً {ران} بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحماد ويحيى {تعرف} مبنياً للمفعول {نضرة} بالرفع: يزيد ويعقوب {خاتمه} بالألف بعد الخاء والتاء مفتوحة: علي.
{أهلهم} بكسر الهاء والميم: أبو عمرو وسهل ويعقوب.
وقرأ حمزة وعلي وخلف بضمهما. الباقون: بضم ميم الجمع فقط {فكهين} مقصوراً: يزيد وحفص {هل ثوب الكفار} بالإدغام: حمزة وعلي وهشام.

.الوقوف:

{للمطففين} o لا {يستوفون} o للفصل بين تناقض الحالين ولكن يلزم تفريق الوصفين مع اتفاق الجملتين {يخسرون} o للاستفهام {عظيم} o لا لأن التقدير لأمر يوم عظيم في يوم كذا وهو بدل بني على الفتح للإضافة إلى الجملة {لرب العالمين} o ط لأن {كلا} لتحقيق أنّ بمعنى (ألا) التي للتنبيه أو حقًّا أو هو ردع عن التطفيف وكذا أخواتها في السورة {سجين} o ط {ما سجين} o ط للحذف أي هو كتاب {مرقوم} o ط لأن {ويل} مبتدأ {للمكذبين} o لا {الدين} o ط للابتداء بالنفي {أثيم} o لأن الشرطية بعده صفة أخرى له {الأوّلين} o والوقف لما ذكر {يكسبون} o {لمحجوبون} o لأن (ثم) لترتيب الأخبار {الجحيم} o ك لاختلاف الجملتين {تكذبون} o ك {عليين} o ك {عليون} o ك {مرقوم} o لا لأن ما بعده صفة {المقربون} o ط {نعيم} o لا لأن ما بعده حال أو صفة {ينظرون} o لا لذلك {النعيم} o ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً {مختوم} o لا لأن ما بعده وصف {مسك} ط {المتنافسون} o ط {تسنيم} o لا بناء على أن {عيناً} حال كما قال الزجاج. فإن أريد النص على المدح جاز الوقف {المقربون} o ط {يضحكون} o ط للآية ولكن إتمام الكلام أولى {يتغامزون} o ك لذلك {فكهين} o ك {لضالون} o لا لأن المنفية حال {حافظين} o ط لتبدل الكلام معنى {يضحكون} o لا {ينظرون} o ط {يفعلون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}
اعلم أن اتصال أول هذه السورة بآخر السورة المتقدمة ظاهر، لأنه تعالى بين في آخر تلك السورة أن يوم القيامة يوم من صفته أنه لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر كله لله وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} والمراد الزجر عن التطفيف، وهو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية، وذلك لأن الكثير يظهر فيمنع منه، وذلك القليل إن ظهر أيضاً منع منه، فعلمنا أن التطيف هو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية.
وهاهنا مسائل:
المسألة الأول:
الويل، كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال: ويل لك، وويل عليك.
المسألة الثانية:
في اشتقاق لفظ المطفف قولان الأول: أن طف الشيء هو جانبه وحرفه، يقال: طف الوادي والإناء، إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلئ فهو طفافه وطفافه وطففه، ويقال: هذا طف المكيال وطفافه، إذا قارب ملأه لكنه بعد لم يمتلئ، ولهذا قيل: الذي يسيء الكيل ولا يوفيه مطفف، يعني أنه إنما يبلغ الطفاف.
والثاني: وهو قول الزجاج: أنه إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف، لأنه يكون الذي لا يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف.
وهاهنا سؤالات:
الأول:
وهو أن الاكتيال الأخذ بالكيل، كالاتزان الأخذ بالوزن، ثم إن اللغة المعتادة أن يقال: اكتلت من فلان، ولا يقال: اكتلت على فلان، فما الوجه فيه ههنا؟.
الجواب: من وجهين الأول: لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرار بهم وتحامل عليهم، أقيم على مقام من الدالة على ذلك الثاني: قال الفراء: المراد اكتالوا من الناس، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال أخذت ما عليك، وإذا قال اكتلت منك، فهو كقوله استوفيت منك.
السؤال الثاني:
هو أن اللغة المعتادة أن يقال كالوا لهم، أو وزنوا لهم، ولا يقال كلته ووزنته فما وجه قوله تعالى: {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم}؟
والجواب من وجوه:
الأول: أن المراد من قوله: {كالوهم أو وزنوهم} كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار وأوصل الفعل.
قال الكسائي والفراء: وهذا من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم يقولون: زنى كذا، كلى كذا، ويقولون صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، فعلى هذا الكناية في {كالوهم} و{وزنوهم} في موضع نصب.
الثاني: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير: وإذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا موزونهم.
الثالث: يروى عن عيسى بن عمر، وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيداً لما في كالوا ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا، وزعم الفراء والزجاج أنه غير جائز، لأنه لو كان بمعنى كالوهم لكان في المصحف ألف مثبتة قبل هم.
واعترض صاحب (الكشاف) على هذه الحجة، فقال إن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الحظ والجواب أن إثبات هذه الألف لو لم يكن معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباتها في سائر الأعصار، لما أنا نعلم مبالغتهم في ذلك، فثبت أن إثبات هذه الألف كان معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباته ههنا.
السؤال الثالث:
ما السبب في أنه قال: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا} ولم يقل إذا انزنوا، ثم قال: {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم} فجمع بينهما؟.
أن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر.
السؤال الرابع:
اللغة المعتادة أن يقال خسرته، فما الوجه في أخسرته؟.
الجواب قال الزجاج: أخسرت الميزان وخسرته سواء أي نقصته، وعن المؤرج {يخسرون} ينقصون بلغة قريش.
المسألة الثالثة:
عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك، وقيل كان أهل المدينة تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال: «خمس بخمس» قيل يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر».
المسألة الرابعة:
الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً، ويدفعون ناقصاً، ثم اختلف العلماء، فقال بعضهم: هذه الآية دالة على الوعيد، فلا تتناول إلا إذا بلغ التطفيف حد الكثير، وهو نصاب السرقة، وقال آخرون بل ما يصغر ويكبر دخل تحت الوعيد، لكن بشرط أن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم منها، وهذا هو الأصح.
المسألة الخامسة:
احتج أصحاب الوعيد بعموم هذه الآية، قالوا: وهذه الآية واردة في أهل الصلاة لا في الكفار، والذي يدل عليه وجهان الأول: أنه لو كان كافراً لكان ذلك الكفر أولى باقتضاء هذا الويل من التطفيف، فلم يكن حينئذ للتطفيف أثر في هذا الويل، لكن الآية دالة على أن الموجب لهذا الويل هو التطفيف الثاني: أنه تعالى قال: للمخاطبين بهذه الآية: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيوم عَظِيمٍ} [المطففين: 4، 5] فكأنه تعالى هدد المطففين بعذاب يوم القيامة، والتهديد بهذا لا يحصل إلا مع المؤمن، فثبت بهذين الوجهين أن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة والجواب: عنه ما تقدم مراراً، ومن لواحق هذه المسألة أن هذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضاً من الكبائر.
واعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم، وذلك لأن عامة الخلق يحتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر المكيال والميزان، فلهذا السبب عظم الله أمره فقال: {والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ في الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 7- 9] وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25] وعن قتادة: أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفي لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة، وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين! أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.
{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)}
اعلم أنه تعالى وبخ هؤلاء المطففين فقال: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ} الذين يطففون {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيوم عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة، وفي الظن هاهنا قولان: الأول: أن المراد منه العلم، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدقين بالبعث، ويحتمل أن لا يكونوا كذلك أما الاحتمال الأول: فهو ما روي أن المسلمين من أهل المدينة وهم الأوس والخزرج كانوا كذلك، وحين ورد النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك شائعاً فيهم، وكانوا مصدقين بالبعث والنشور، فلا جرم ذكروا به، وأما إن قلنا: بأن المخاطبين بهذه الآية ما كانوا مؤمنين بالبعث إلا أنهم كانوا متمكنين من الاستدلال عليه، لما في العقول من إيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء، أو إمكان ذلك إن لم يثبت وجوبه، وهذا مما يجوز أن يخاطب به من ينكر البعث، والمعنى ألا يتفكرون حتى يعلموا أنهم مبعوثون، لكنهم قد أعرضوا عن التفكر، وأراحوا أنفسهم عن متاعبه ومشاقه، وإنما يجعل العلم الاستدلال ظناً، لأن أكثر العلوم الاستدلالية راجع إلى الأغلب في الرأي، ولم يكن كالشك الذي يعتدل الوجهان فيه لا جرم سمي ذلك ظناً القول الثاني: أن المراد من الظن هاهنا هو الظن نفسه لا العلم، ويكون المعنى أن هؤلاء المطففين هب أنهم لا يجزمون بالبعث ولكن لا أقل من الظن، فإن الأليق بحكمة الله ورحمته ورعايته مصالح خلقه أن لا يهمل أمرهم بعد الموت بالكلية، وأن يكون لهم حشر ونشر، وأن هذا الظن كاف في حصول الخوف، كأنه سبحانه وتعالى يقول: هب أن هؤلاء لا يقطعون به أفلا يظنونه أيضاً، فأما قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ {يوم} بالنصب والجر، أما النصب فقال الزجاج: يوم منصوب بقوله: {مَّبْعُوثُونَ} والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة، وقال الفراء: وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب، وهذا كما ذكرنا في قوله: {يوم لاَ تَمْلِكُ} وأما الجر فلكونه بدلاً من {يوم عَظِيمٍ}.
المسألة الثانية:
هذا القيام له صفات:
الصفة الأولى: سببه وفيه وجوه أحدها: وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين، فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير، فيعرف هناك كثرته واجتماعه، ويقرب منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وثانيها: أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها، فذاك هو المراد من قوله: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} وثالثها: قال أبو مسلم معنى: {يَقُومُ الناس} هو كقوله: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [البقرة: 238] أي لعبادته فقوله: {يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} أي لمحض أمره وطعته لا لشيء آخر، على ما قرره في قوله: {والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ}.
الصفة الثانية: كيفية ذلك القيام، روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} قال: «يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» وعن ابن عمر: أنه قرأ هذه السورة، فلما بلغ قوله: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} بكى نحيباً حتى عجز عن قراءة ما بعده.
الصفة الثالثة: كمية ذلك القيام، روى عنه عليه السلام أنه قال: «يقوم الناس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر» وعن ابن مسعود: يمكثون أربعين عاماً ثم يخاطبون. وقال ابن عباس: وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة.
واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعاً من التهديد، فقال أولا: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} [المطففين: 1] وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء، ثم قال ثانياً: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ} وهو استفهام بمعنى الإنكار، ثم قال ثالثاً: {لِيوم عَظِيمٍ} والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة، ثم قال رابعاً: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين}.
وفيه نوعان من التهديد أحدهما: كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار.
والثاني: أنه وصف نفسه بكونه رباً للعالمين، ثم هاهنا سؤال وهو كأنه قال قائل: كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف؟ فكأنه سبحانه يجيب، فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة، فعظمة القدرة ظهرت بكوني رباً للعالمين، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن انتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة، والذي يرى عيب الناس، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه، فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقًّا. اهـ.